بيان ضد الوجبات السريعة الصوتية

أضيف بتاريخ 08/13/2025
منصة المَقالاتيّ

نعيش اليوم في عالم لم يعد فيه الضجيج حادثاً عارضاً، بل خلفية دائمة للحياة. يلازمنا كظلّ في المطاعم والمصاعد والشواطئ والمحطات والمتاجر وحتى في بعض الشوارع المزوّدة بمكبّرات الصوت. ما يصلنا ليس موسيقى تُصغى، بل عجينة صوتية جاهزة تُفرش في الهواء لملء الفراغ؛ ليست وجبةً متقنة بل “همبرغر سمعي” مضبوطاً على الإرضاء الفوري، مشبعاً بـ“دهون” هارمونية و“سكّر” لحني، ويُقدَّم فاتراً طوال اليوم.

لطالما صاغت الحضارات مشاهدها السمعية: دقّ الأجراس، صخب الأسواق، إيقاع المهن. كانت أصواتاً ذات معنى تحكي حياة الجماعة. اليوم استُبدلت بإيقاعٍ قابل للاستبدال، كونيّ، بلا ذاكرة ولا جذور؛ بات العالم كأنه يستمع إلى المحطة الإذاعية ذاتها من دون أن يختارها.

يُباع هذا الاجتياح بوصفه “أجواء” ولفتة ضيافة، لكنه عملياً ضخٌّ منتظم لأصواتٍ معيارية بلا موافقة منّا. الأهم ليس الجودة بل انتظام الجرعة. حضارة تشبع فضاءها بضجيجٍ مُعلّب تبدو ككائنٍ لا يحتمل الصوم: يحتاج دوماً إلى ابتلاع أي شيء لئلا يواجه الفراغ.

في هذا المنطق يصبح الصمت عدواً: مُطالِباً، غيرَ متوقّع. يُستبدل بما لا يتطلب أي جهد في الإصغاء. إنه الوجبات السريعة بصيغتها الصوتية: ألحان فقيرة تنساب بلا مفاجأة وتُنسى فور ابتلاعها. كما تُعوّد “المأكولات السريعة” الذائقةَ على الدهن والسكّر السهلَين، تُعوِّد هذه “الموسيقى” الأذنَ على سهولةٍ مُخدِّرة، فتجعل التعقيد مُريباً، والبطء مُضجِراً، والعمق مُتعباً.

كان الصمتُ سابقاً مورداً: يؤطّر الحياة الداخلية في الأديرة، يرافق البطء في البيوت الريفية، ويفتح في الغابات مجالاً للخيال. وهو قرين الانتباه والتركيز. تراجعه اليوم ليس طارئاً؛ إنه انعكاس لزمنٍ غدت فيه انتباهات البشر سلعة تُقتنص وتُحتل وتُشبَع حتى التخمة.

هنا يعمل السمّ على مهل: لا نكتفي بتحمّل هذا السيل الموسيقي، بل يكوّن ذائقتنا ذاتها، يخفض عتبة تقبّل المفاجأة والجهد والإصغاء الطويل، ويصرفنا عن الاكتشاف كما تفعل المشروبات المُحلّاة التي تقطع العطش وتُجفّف الجسد. نصير مستهلكين للصوت كما نستهلك “سعرات فارغة”: شِباعى وجياعاً في آنٍ، مملوئين ومُفقَرين.

لطالما أدركت السلطات وزن التحكم بما نسمع: من المناداة في الساحات والأناشيد والعروض العسكرية إلى أسلوب اليوم القائم على الإغراق. لم يعد الهدفَ إبلاغَ رسالة بعينها بل منعك من سماع سواها أو من البقاء مع أفكارك. يُحتلّ سمعك لاحتلال ذهنك.

ليست المشكلة هنا صخب الديسيبلات فحسب؛ الخطر أدقّ: ضجيج لا يسحقك بل يُرخيك حتى الخدر. لا يصفعك بل يداعب حواسك حتى لا تعود تشعر. يُكسّل الأذن ويُبْلِه الذائقة كما تفعل الصناعة الغذائية بالحنك. نعتقد أننا لا نفقد شيئاً، فيما نفقد كل شيء: أذن الريح، فضول الصوت الجديد، متابعة جملةٍ موسيقية تتطلب منا أن نلازمها.

ومع الاعتياد على هذا الضباب الهارموني، يغدو الواقع خامّاً عدائياً: تغريدة عصفور تُعدّ ضوضاء في مقهى، وصمت نزهة يبدو ثقيلاً كغياب. نفضّل الخرير الاصطناعي على تنفّس العالم. تلك هي الإشارة الأخطر: الإدمان. اللحظة التي لا نلحظ فيها التطفّل، ونشعر بالعُري دونه، كأن الهواء يحتاج عطراً ليُستنشَق.

الحقيقة أن هذه “الموسيقى” لا تُقصَد للإصغاء؛ وظيفتها الاحتلال. هي بالنسبة للموسيقى كما الضجيج الإعلاني بالنسبة للأدب: خلفية عاطفية مضبوطة لإبقائنا في حالةٍ لا نسائل فيها شيئاً. لا ترفع، بل تُخدّر. لا تقترح، بل تفرض — وبابتسامة تجعلها مقبولة، وهنا فعاليتها: عنفٌ لا نعيه لأنه بات عادة.

ننسى أن ثمة نظاماً سمعياً آخر كما ننسى أن ثمة غذاءً غير الوجبات السريعة: ثقافةُ إصغاءٍ صبورةٌ مُطالِبة تبدأ بالجلوس إلى الصمت. ثقافةٌ تكون فيها الموسيقى لقاءً وتجربة لا عطراً للأجواء. وليس المطلوب وعظاً بالتقشّف، بل تذكيرٌ بأن الأذن لا تُغذّى بتساليَ سمعية تُضخّ دون انقطاع.

غزو الأصوات الممضوغة هذا مرآة لعصرٍ يؤثر الكمّ على الكيف، والتحفيز على التأمّل، والراحة على الاكتشاف. عالمٌ يخشى الصمت لأنه يخشى ما يكشفه لنا: أن ما يبقى، من دون ضجيج وزينة مفروضة، هو نحن وحدنا في مواجهة فكرنا. ربما ذاك ما يفزع أكثر من الصخب: أن نكتشف، في الصمت، من نكون حقاً.

حقوق النشر: دانيال هوروفيتز. المصدر: Tribune Juive – “Manifeste contre la malbouffe sonore. Par Daniel Horowitz”، منشور في 12غشت/آب 2025.